سورة مريم - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


قوله تعالى: {واذكر في الكتاب} يعني: القرآن {مريمَ إِذ انتبذت} قال أبو عبيدة: تنحَّت واعتزلت {مكاناً شرقيّاً} مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربيّ.
قوله تعالى: {فاتّخذتْ من دونهم} يعني: أهلها {حجاباً} أي: ستراً وحاجزاً، وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها ضربت ستراً، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن الشمس أظلَّتْها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، روي هذا المعنى عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: أنها اتخذت حجاباً من الجدران، قاله السدي عن أشياخه.
وفي سبب انفرادها عنهم قولان:
أحدهما: أنها انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس.
والثاني: لتفلّي رأسها، قاله عطاء.
قوله تعالى: {فأرسلنا إِليها روحنا} وهو جبريل في قول الجمهور. وقال ابن الأنباري: صاحب روحنا، وهو جبريل. والرُّوح بمعنى: الرَّوْح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإِبطال طريق المصدر، ويجوز أن يُراد بالرُّوح هاهنا: الوحي وجبريل صاحب الوحي.
وفي وقت مجيئه إِليها ثلاثة أقوال.
أحدها: وهي تغتسل.
والثاني: بعد فراغها، ولبسها الثياب.
والثالث: بعد دخولها بيتها. وقد قيل: المراد بالروح هاهنا: الروح الذي خُلق منه عيسى، حكاه الزجاج، والماوردي، وهو مضمون كلام أُبيّ بن كعب فيما سنذكره عند قوله: {فحملتْه}. قال ابن الأنباري: وفيه بُعد، لقوله: {فتمثَّل لها بَشَراً سويّاً}، والمعنى: تصوَّر لها في صورة البَشَر التامّ الخِلْقة. وقال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعد قطط حين طرَّ شاربه. وقرأ أبو نهيك: {فأرسلنا إِليها رَوحنا} بفتح الراء، من الرَّوْح.
قوله تعالى: {قالت إِني أعوذ بالرحمن منكَ إِن كنتَ تقيّاً} المعنى: إِن كنتَ تتَّقي الله، فستنتهي بتعوُّذي منك، هذا هو القول عند المحققين. وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجراً، فظنتْه إِياه، ذكره ابن الأنباري، والماوردي. وفي قراءة عليّ عليه السلام، وابن مسعود، وأبي رجاء: {إِلا أن تكون تقيّاً}.
قوله تعالى: {قال إِنما أنا رسول ربِّك} أي: فلا تخافي {لِيَهَبَ لك} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {لأهب لك} بالهمز. وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: {ليهب لك} بغير همز. قال الزجاج: من قرأ {ليهب} فالمعنى: أرسَلني ليهب، ومن قرأ {لأهب} فالمعنى: أُرسلتُ إِليكِ لأهب لكِ. وقال ابن الأنباري: المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلتُ رسولي إِليكِ لأهبَ لكِ.
قوله تعالى: {غلاماً زكيّاً} أي: طاهراً من الذنوب. والبغيّ: الفاجرة الزانية. قال ابن الأنباري: وإِنما لم يقل: بغيَّة لأنه وصف يغلب على النساء، فقلَّما تقول العرب: رجل بغيّ، فيجري مجرى حائض، وعاقر. وقال غيره: إِنما لم يقل: بغيَّة لأنه مصروف عن وجهه، فهو فعيل بمعنى: فاعل.
ومعنى الآية: ليس لي زوج، ولستُ بزانية، وإِنما يكون الولد من هاتين الجهتين. {قال كذلِكِ قال ربُّكِ} قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسيرٌ عليّ أن أهب لكِ غلاماً من غير أب. {ولنجعله آية للناس} أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب. قال ابن الأنباري: إِنما دخلت الواو في قوله: {ولنجعلَه} لأنها عاطفة لِما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربُّكِ خَلْقُه عليّ هيِّن لننفعكِ به، ولنجعلَه عبرة.
قوله تعالى: {ورحمةً مِنّا} أي: لمن تبعه وآمن به {وكان أمراً مقضيّاً} أي: وكان خَلْقُه أمراً محكوماً به، مفروغاً عنه، سابقاً في عِلْم الله تعالى كونه.


قوله تعالى: {فحملته} يعني: عيسى.
وفي كيفية حملها له قولان:
أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب دِرعها، فاستمرَّ بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قُدَّامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها.
والثاني: الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل مِنْ فيها، قاله أُبيّ بن كعب.
وفي مقدار حَمْلها سبعة أقوال.
أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال، لأن الله تعالى يقول: {فحملته فانتبذت به}، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتاً يحتمل الانتباذ به.
والثاني: أنها حملته تسع ساعات، ووضعت من يومها، قاله الحسن.
والثالث: تسعة أشهر، قاله سعيد بن جبير، وابن السائب.
والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان.
والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج.
والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي.
والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: {فانتبذت به} يعني بالحَمْل {مكاناً قصيّاً} أي: بعيداً. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: {قاصياً}. قال ابن إِسحاق: مشت ستة أميال. قال الفراء: القصيّ والقاصي بمعنى واحد. وقال غير الفراء: القصيّ والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد. وإِنما بَعُدت، فراراً من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج.
قوله تعالى: {فأجاءها المَخاض} وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري: {المِخاض} بكسر الميم. قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاض، فلما أُلقيت الباء، جُعلت في الفعل ألفاً، ومثله: {آتنا غداءنا} [الكهف: 62] أي: بغدائنا، ومثله: {آتوني زُبَر الحديد} [الكهف: 96] أي: بزبر الحديد. قال أبو عبيدة: أفعلها من جاءت هي، وأجاءها غيرها. وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها، وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إِليك، وأجاءَتني الحاجة إِليك، والمَخاض: الحمل. وقال غيره: المخاض: وجع الولادة. {إِلى جِذع النخلة} وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف. {قالت يا ليتني مُتُّ قبل هذا} اليوم، أو هذا الأمر. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: {مِتُّ} بكسر الميم.
وفي سبب قولها هذا قولان:
أحدهما: أنها قالته حياءً من الناس.
والثاني: لئلا يأثموا بقذفها.
قوله تعالى: {وكنتُ نسياً منسيّاً} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، بكسر النون، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: {نَسياً} بفتح النون. قال الفراء: وأصحاب عبد الله يقرؤون: {نَسياً} بفتح النون، وسائرالعرب بكسرها، وهما لغتان، مثل الجَسر والجِسر، والوَتر والوِتر، والفتح أحب إِليَّ.
قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر النون قال: النِسي: اسم لما يُنسى، بمنزلة البِغض اسم لما يُبْغَض، والسِّب اسم لما يُسَب. والنَسي بفتح النون: اسم لما يُنسى أيضاً على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دَنِف ودَنَف. فالمكسور: هو الوصف الصحيح، والمفتوح: مصدر سدَّ مسدَّ الوصف. ويمكن أن يكون النِسي والنَسي اسمين لمعنىً، كما يقال: الرِّطل والرَّطل.
وللمفسرين في قوله تعالى: {نسياً منسيّاً} خمسة أقوال.
أحدها: يا ليتني لما أكن شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد.
والثاني: {وكنت نسياً منسيّاً} أي: دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة. قال الفراء: النّسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها. وقال ابن الأنباري: هي خرق الحيض تلقيها المرأة فلا تطلبها ولا تذكرها.
والثالث: أنه من السقط، قاله أبو العالية، والربيع.
والرابع: أن المعنى: يا ليتني لا يُدرى من أنا، قاله قتادة.
والخامس: أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إِليه، قاله ابن السائب. وقال أبو عبيدة: النِسي، والمنسي: ما ينسى من إِداوة وعصا. يعني أنه ينسى في المنزل، فلا يرجع إِليه لاحتقار صاحبه إِياه. وقال الكسائي: معنى الآية: ليتني كنت ما إِذا ذُكر لم يُطلب.
قوله تعالى: {فناداها من تحتها} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {مَن تحتها} بفتح الميم، والتاء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {مِن تحتها} بكسر الميم، والتاء. فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان.
أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة. وقيل: كانت على نَشَز، فناداها الملك أسفل منها.
والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس: كلُّ ما رفعت إِليه طرفك، فهو فوقك، وكلُّ ما خفضت إِليه طرفك، فهو تحتك. ومن قرأ بفتح الميم، ففيه الوجهان المذكوران. وكان الفراء يقول: ما خاطبها إِلا الملك على القراءتين جميعاً.
قوله تعالى: {قد جعل ربُّكِ تحتكِ سريّاً} فيه قولان:
أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين، واللغويون، قال أبو صالح، وابن جريج: هو الجدول بالسريانية.
والثاني: أنه عيسى كان سرياً من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، وابن زيد. قال ابن الأنباري: وقد رجع الحسن عن هذا القول إِلى القول الأول، ولو كان وصفاً لعيسى، كان غلاماً سرياً أو سوياً من الغلمان، وقلَّما تقول العرب: رأيت عندك نبيلاً، حتى يقولوا: رجلاً نبيلاً.
فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري؟
فالجواب: من وجهين.
أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدمِ الطعام والشراب والماء الذي تتطهر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهراً، وأطلعنا لك رطباً، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها حزنت لِما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهراً، فجاءها من الأردنِّ، وأخرج لها الرَّطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إِيجاد عيسى، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {وهزِّي إِليك} الهزُّ: التحريك.
والباء في قوله تعالى: {بجذع النخلة} فيها قولان:
أحدهما: أنها زائدة مؤكدة، كقوله تعالى: {فليمدد بسبب إِلى السماء} [الحج: 15] قال الفراء: معناه: فليمدد سبباً. والعرب تقول: هزَّه، وهزَّ به، وخذ الخطام، وخذ بالخطام، وتعلَّق زيداً، وتعلَّق به. وقال أبو عبيدة: هي مؤكدة، كقول الشاعر:
نَضْرِبُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرَج ***
والثاني: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهزِّ، فهي مفيدة للالصاق، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: {تساقط} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {تَسَّاقط} بالتاء مشددة السين. وقرأ حمزة، وعبد الوارث: {تَسَاقط} بالتاء مفتوحة مخففة السين. وقرأ حفص عن عاصم: {تُساقِط} بضم التاء وكسر القاف مخففة السين. وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضل: {يَسَّاقَط} بالياء مفتوجة وتشديد السين وفتح القاف. فهذه القراآت المشاهير. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو حيوة: {تَسْقُط} بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: {يُساقِط} بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: {يُسْقِط} برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني مثله، إِلا أنه بالتاء. وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر مثله، إِلا أنه بالنون. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة: {يَسْقُط} بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف. وقرأ أبو السماك العدوي، وابن حزام: {تتساقط} بتاءين مفتوحين وبألف. وقال الزجاج: من قرأ {يسَّاقط} فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين. ومن قرأ {تسَّاقط}، فكذلك أيضاً، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث. ومن قرأ {تساقط} بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من تتساقط اجتماع التاءين. ومن قرأ {يُساقط} ذهب إِلى معنى: يُساقط الجذع عليك. ومن قرأ {نُساقط} بالنون، فالمعنى: نحن نُساقط عليك، فنجعله لك آية، والنحويون يقولون: إِن {رطباً} منصوب على التمييز إِذا قلت: يسَّاقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطباً. وإِذا قلت: تسَّاقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطباً.
قوله تعالى: {جَنِيّاً} قال الفراء: الجَنِيّ: المجتنى، وقال ابن الأنباري: هو الطريُّ، والأصل: مجنوٌّ، صُرف من مفعول إِلى فعيل، كما يقال: قديد، وطبيخ. وقال غيره: هو الطريّ بغباره: ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليها، سقط الرطب رَطْباً. وكان السلف يستحبُّون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام.
قوله تعالى: {فكلي} أي: من الرطب {واشربي} من النهر {وقَرِّي عينا} بولادة عيسى عليه السلام. قال الزجاج: يقال: قَرِرت به عيناً أقَر، بفتح القاف في المستقبل، وقَرِرت في المكان أقر، بكسر القاف، و{عيناً}: منصوب على التمييز.
وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى {وقرِّي عيناً}، ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارَّة. واشتقاق {قرِّي} من القَرور، وهو الماء البارد. وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير {قرِّي عيناً} بلغتِ غاية أملك حتى تقرَّ عينك من الاستشراف إِلى غيره، واحتج بقول عمرو ابن كلثوم:
بيوم كريهةٍ ضرباً وطعناً *** أقرَّ به مواليك العيونا
أي: ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرَّت عينهم من تطلّع إِلى غيره.
قوله تعالى: {فإما تَرَيِنّ} وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: {ترئِنَّ} بهمزة مكسورة من غير ياء. أي: إِن رأيتِ من البشر أحداً فقولي؛ وفيه إِضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك. {فقولي إِنِّي نذرتُ للرحمن صوماً} فيه قولان:
أحدهما: صمتاً، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك؛ وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي: {صمتاً} مكان قوله: {صوماً}. وقرأ ابن عباس: صياماً.
والثاني: صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إِلا من ذِكْر الله عز وجل. قال السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت. قال ابن مسعود: أُمِرتْ بالصمت، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها مما يُبرِّئ به ساحتها. وقيل: كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس. قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ، يقال: صوم لترك الطعام والشراب، وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذَرْق النعام.
واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبِّه.
والثاني: بنت اثنتي عشرة سنة، قاله زيد بن أسلم.
والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل.


قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها. وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به، فذلك قوله تعالى: {فأتتْ به قومها تحمله}.
فإن قيل: {أتت به} يغني عن {تحمله} فلا فائدة للتكرير.
فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهَّم السامع {فأتت به} أن يكون ساعياً على قدميه، فيكون سعية آيةً كنطقه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مِثْل قول العرب: نظرت إِلى فلان بعيني، فنفَوْا بذلك نظر العطف؛ والرحمة، وأثبتوا أنه نظرُ عَيْنٍ. وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بَكَوْا، وكانوا قوماً صالحين؛ و{قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً} وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: شيئاً عظيماً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. قال الفراء: الفريُّ: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفريَّ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس، قيل هذا فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فما رأيت عبقرياً يفري فَرْيَ عمر». والثاني: عَجباً فائقاً، قاله أبو عبيدة.
والثالث: شيئاً مصنوعاً، ومنه يقال: فريت الكذب، وافتريته، قاله اليزيدي. قوله تعالى: {يا أخت هارون} في المراد بهارون هذا خمسة أقوال.
أحدها: أنه أخ لها من أُمِّها، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك: كان من أبيها وأُمِّها.
والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنُسبت إِليه، لأنها من ولده.
والثالث: أنه رجل صالح كان في بني إِسرائيل، فشبَّهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: {يا أخت هارون} وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أُجيبهم، فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فقال: «ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم».
والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به، قاله وهب بن منبِّه. فعلى هذا يخرج في معنى الأخت قولان:
أحدهما: أنها الأخت حقيقة.
والثاني: المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى: {وما نريهم من آية إِلا هي أكبر من أختها} [الزخرف: 48].
قوله تعالى: {ما كان أبوكِ} يعنون: عِمران {امرأَ سَوْءٍ} أي: زانياً {وما كانت أُمُّكِ} حنَّة {بَغِيّاً} أي: زانية، فمن أين لكِ هذا الولد؟!
قوله تعالى: {فأشارت} أي: أومأت {إِليه} أي: إِلى عيسى فتكلَّم.
وقيل المعنى: أشارت إِليه أنْ كلِّموه. وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت قومها، وقال: يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلِّموه، تعجَّبوا من ذلك، و{قالوا كيف نكلِّم من كان} وفيها أربعة أقوال.
أحدها: أنها زائدة، فالمعنى كيف نكلِّم صبياً في المهد؟!.
والثاني: أنها في معنى: وقع، وحدث.
والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبياً، فكيف نكلِّمه؟! حكاها الزجاج، واختار الأخير منها؛ قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟! أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء.
والرابع: أن {كان} بمعنى: صار، قاله قطرب.
وفي المراد بالمهد قولان:
أحدهما: حِجْرُها، قاله نوفٌ، وقتادة، والكلبي.
والثاني: سرير الصبي المعروف، حكاه الكلبي أيضاً.
قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، فقال: إِني عبد الله. قال المفسرون: إِنما قدَّم ذِكر العبودية، ليُبطلَ قول من ادَّعى فيه الربوبية. وفي قوله: {آتانيَ الكتاب} أسكن هذه الياء حمزة. وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أُمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: علم التوراة والإِنجيل وهو في بطن أُمه.
والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة.
وفي {الكتاب} قولان:
أحدهما: أنه التوراة.
والثاني: الإِنجيل.
قوله تعالى: {وجعلني نبيّاً} هذا وما بعده إِخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إِيَّاه مما سيظهر ويكون. وقيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيّاً إِذا بلغتُ؛ فحلَّ الماضي محلَّ المستقبل، كقوله تعالى: {وإِذ قال الله يا عيسى} [المائدة: 116].
وفي وقت تكليمه لهم قولان:
أحدهما: أنه كلَّمهم بعد أربعين يوماً.
والثاني: في يومه. وهو مبنيٌّ على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم.
قوله تعالى: {وجعلني مبارَكاً أينما كنتُ} روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: «نفّاعاً حيثما توجهت» وقال مجاهد: معلِّماً للخير.
وفي المراد {بالزكاة} قولان:
أحدهما: زكاة الأموال، قاله ابن السائب.
والثاني: الطهارة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {وبَرّاً بوالدتي} قال ابن عباس: لمَّا قال هذا، ولم يقل: بوالديّ علموا أنه وُلد من غير بَشَر.
قوله تعالى: {ولم يجعلني جباراً} أي: متعظِّماً {شقيّاً} عاصياً لربه {والسَّلام عليَّ يومَ وُلدتُ} قال المفسرون: السلامة عليَّ من الله يوم وُلدتُ حتى لم يضرَّني شيطان. وقد سبق تفسير الآية [مريم: 15].
فإن قيل: لم ذكر هاهنا {السلام} بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أنه لمّا جرى ذِكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يَرِد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج.
وقد اعتُرِض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأول وهو قول الله عز وجل؟!
وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: عيسى إِنما يتعلَّم من ربِّه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرَّف السلام الثاني لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصدٍ به إِتباع اللفظ المحكيّ، لأن المتكلِّم، له أن يغيِّر بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رَجُل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنتَ رَجُل منصِف.
والجواب الثاني: أن سلاماً والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7